كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.الخبر عن أهل جبال درن بالمغرب الأقصى من بطون المصامدة وما كان لهم من الظهور والأحوال ومبادىء أمورهم وتصاريفها.
هذه الجبال بقاصية المغرب من أعظم جبال المعمور ربما أعرق في الثرى أصلها وذهبت في السماء فروعها ومدت في الجو هياكلها ومثلت سياجا على ريف المغرب سطورها تبتدىء من ساحل البحر المحيط عند أسفى وما إليها وتذهب في المشرق إلى غير نهاية.
ويقال إنها تنتهي إلى قبلة برنيق من أرض برقة وهي في الجانب مما يلي مراكش قد ركب بعضها بعضا متتالية على نسق من الصحراء إلى التل يسير الراكب فيه متعرضا من تامسنا وسواحل مراكش إلى بلاد السوس ودرعه من القبلة ثمان مراحل وأزيد تفجرت فيها الأنهار وجلل الأرض حمراء الشعراء وتطابقت بينها ظلال الأدواح وزكت فيها الزرع والضرع وانفسحت مسارح الحيوان ومراقع الصيد وطابت منابت الشجر ودرت أفاويق الجباية يعمرها من قبائل المصامدة أمم لا يحصيهم إلا خالقهم قد اتخذوا المعاقل والحصون وشيدوا المباني والقصور واستغنوا بقطرهم عن سائر أقطار العالم فرحل إليهم التجر من الآفاق واختلفت إليهم أهل النواحي والأمصار ولم يزالوا مذ أول الإسلام وما قبله معتمرين بتلك الجبال قد أوطنوا منها أقاليم تعددت فيها الممالك والعمالات بتعدد شعوبهم وقبائلهم وافترقت أسماؤها بافتراق أجيالهم.
تنتهي ديارهم من هذه الجبال إلى ثنية المعدن المعروفة ببني فازان حيث تبتدىء مواطن صنهاجة ويحفون بهم كذلك من ناحية القبلة إلى بلاد السوس وقبائل هؤلاء المصامدة بهذه المواطن كثيرة فمنهم:
هرغة وهنتاتة وتينملل وكدموية وكنفيسة ووريكة وركراكة وهزميرة ودكالة وحاحة وأمادين وازكيت وبنو ماكر وإيلانة ويقال صيلانة ويقال أيضا أن إيلان هو ابن بر أصهر المصامدة فكانوا حلفاء لهم.
ومن بطون أمادين مصفاوة وماغوس ومن مصفاوة دغاغة وبوطنان ويقال إن غمارة ورهون وأمل من أمادين والله أعلم.
ويقال إن من بطون حاحة زكن وولخصن الظواعن الآن بأرض السوس أحلافا لذوي حسان المتغلبين عليها من عرب المعقل ومن بطون كنفيسة أيضا قبيلة سكسباوة الموطنون بأمنع المعاقل بهذه الجبال المطل جبلهم على بسيط السوس من القبلة وعلى ساحل البحر المحيط من المغرب ولهم بمنعة معقلهم ذلك اعتزاز على أهل جلدتهم نذكره بعد وكان لهؤلاء المصامدة صدر الإسلام بهذه الجبال عدد وقوة وطاعة للدين ومخالفة لإخوانهم برغواطة في نحلة كفرهم وكان من مشاهيرهم كثير بن وسلاس بن شملال بن أمادة وهو يحيى بن يحيى راوي الموطأ عن مالك.
دخل الأندلس وشهد الفتح مع طارق في آخرين من مشاهيرهم استقروا بالأندلس وكان لأعقابهم بها ذكر في الدولة الأموية كان منهم قبل الإسلام ملوك وأمراء ولهم مع لمتونة ملوك المغرب حروب وفتن سائر أيامهم حتى كان اجتماعهم على المهدي وقيامهم بدعوته فكانت لهم دولة عظيمة أدالت من لمتونة بالعدوتين ومن صنهاجة بأفريقية حسبما هو مشهور ونأتي الآن بذكره إن شاء الله وبالله التوفيق لا رب سواه ولا معبود إلا إياه.
.الخبر عن مبدأ أمر المهدي ودعوته وما كان للموحدين القائمين بها على يد بني عبد المؤمن من السلطان والدولة وبالعدوتين وأفريقية وبداية ذلك وتصاريفه.
لم يزل أمر هؤلاء المصامدة بجبال درن عظيما وجماعتهم موفورة وبأسهم قويا وفي أخبار الفتح من حروبهم عقبة بن نافع وموسى بن نصير حتى استقاموا على الإسلام ما هو معروف مذكور إلى أن أظللتهم دولة لمتونة فكان أمرهم فيها مستفحلا وشأنهم على أهل السلطان والدولة مهما حتى لما اختطوا مدينة مراكش لنزلهم جوار مواطنهم من درن ليتميزوا عمن سواهم ويذللوا من صعابهم وفي عنفوان تلك الدولة على عهد علي بن يوسف منها نجم إمامهم العالم الشهير محمد بن تومرت صاحب دولة الموحدين المشتهر بالمهدي أصله من هزيمة من بطون المصامدة الذين عددناهم يسمى أبوه عبد الله وتومرت وكان يلقب في صغره أيضا أمغار وهو محمد ابن عبد الله بن وجليد ابن بامصال بن حمزة بن عيسى فيما ذكر ابن رشيق وحققه ابن القطان وذكر بعض مؤرخي المغرب أنه محمد بن تومرت بن نيطاوس بن ساولا ابن سفيون بن الكلديس بن خالد.
وزعم كثير من المؤرخين أن نسبه في أهل البيت وأنه محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن هود بن خالد بن تمام بن عدنان ابن سفيان بن صفوان بن جابر بن عطاء بن رباح بن محمد من ولد سليمان بن عبد الله ابن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب أخي إدريس الأكبر الواقع نسب الكثير من بيته في المصامدة وأهل السوس كذا ذكر ابن نحيل في سليمان هذا وأنه لحق بالمغرب إثر أخيه ادريس ونزل تلمسان وافترق ولده في المغرب قال: فمن ولده كل طالبي بالسوس وقيل بل هو من قرابة إدريس اللاحقين به إلى المغرب وأن رباحا الذي في عمود هذا النسب إنما هو ابن يسار العباس بن محمد بن الحسن وعلى الأمرين فإن نسبة الطالبي وقع في هرغة من قبائل المصامدة ورسخت عروقه فيهم والتحم بعصبيتهم فلبس جلدتهم وانتسب بنسبتهم وصار في عدادهم.
وكان أهل بيته أهل نسك ورباط وشب محمد هذا قارئا محبا للعلم وكان يسمى أسافو ومعناه الضياء لكثرة ما كان يسرج القناديل بالمساجد لملازمتها وارتحل في طلب العلم إلى المشرق على رأس المائة الخامسة ومر بالأندلس ودخل قرطبة وهي إذ ذاك دار علم ثم أجاز إلى الإسكندرية وحج ودخل العراق ولقي جملة من العلماء يومئذ وفحول النظار وأفاد علما واسعا وكان يحدث نفسه بالدولة لقومة على يده لما كان الكهان والحزاء يتحينون ظهور دولة يومئذ بالمغرب ولقي فيما زعموا أبا حامد الغزالي وفاوضه بذات صدره بذلك فأراده عليه لما كان فيه الإسلام يومئذ بأقطار المغرب من اختلال الدولة وتقويض أركان السلطان الجامع الأمة المقيم للملة بعد أن ساء له عمن له من العصابة والقبائل التي يكون بها الاعتزاز والمنعة ونشأ بها يتم أمر الله في درك البغية وظهور الدعوة وانطوى هذا الإمام راجعا إلى المغرب بحرا متفجرا من العلم وشهابا واريا من الدين وكان قد لقي بالمشرق أئمة الأشعرية من أهل السنة وأخذ منهم واستحسن طريقهم في الانتصار للعقائد السلفية والذب عنها بالحجج العقلية الدافعة في صدر أهل البدعة وذهب إلى رأيهم في تأويل المتشابه من الآي والأحاديث بعد أن كان أهل المغرب بمعزل عن أتباعهم في التأويل والأخذ برأيهم فيه اقتداء بالسلف في ترك التأويل وإقرار التشابهات كما جاءت ففطن أهل المغرب في ذلك وحملهم على القوم بالتأويل والأخذ بمذاهب الأشعرية في كافة العقائد وأعلن بإمامتهم ووجوب تقليدهم وألف العقائد على رأيهم مثل المرشدة في التوحيد.
وكان من رأيه القول بعصمة الإمام على رأي الإمامية من الشيعة وألف في ذلك كتابه في الإمامية الذي افتتحه بقوله: أعز ما يطلب وصار هذا المفتتح لقبا على ذلك الكتاب وأحل بطرابلس أول بلاد المغرب معنيا بمذهبه ذلك مظهرا النكير على علماء المغرب في عدولهم عنه آخذا نفسه بتدريس العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما استطاع حتى لقى بسبب ذلك أذيات في نفسه احتسبها من صالح عمله ولما دخل بجاية وبها يومئذ العزيز بم المنصور بن الناصر بن علناس ابن حماد من أمراء صنهاجة.
وكان من المترفين فأغلظ له ولأتباعه بالنكير وتعرض يوما لتغيير بعض المنكرات في الطرق فوقعت بسببها هيعة نكرها السلطان والخاصة وائتمروا به فخرج منها خائفا ولحق بملالة على فرسخ منها وبها يومئذ بنو ورياكل من قبائل صنهاجة.
وكان لهم اعتزاز ومنعة فآووه وأجاروه وطلبهم السلطان صاحب بجاية بإسلامه إليه فأبوا وأسخطوه وأقام بينهم يدرس العلم أياما.
وكان يجلس إذا فرغ على صخرة بقارعة الطريق قريبا من ديار ملاله وهي لهذا العهد معروفة.
وهناك لقيه كبير صحابته عبد المؤمن بن علي حاجا مع عمه فأعجب بعلمه وانتهى عومه عن وجهه ذلك واختص به وتشمر للأخذ عنه وارتحل المهدي إلى المغرب وهو في جملته ولحق بوانشرس وصحبه منها البشير من جملة أصحابه.
ثم لحق بتلمسان وقد تسامع الناس بخبره فأحضره القاضي بها ابن صاحب الصلاة ووبخه على منتحله ذلك وخلافه لأهل قطره وظن أن من العدل نزعه عن ذلك فصم عن قبوله واستمر على طريقه إلى فاس ثم إلى مكناسة ونهى بها عن بعض المناكير فأوقع به الشرار من الغوغاء فأوجعوه ضربا ولحق بمراكش وأقام بها آخذا في شأنه ولقي علي بن يوسف في المسجد الجامع في صلاة الجمعة فوعظه وأغلظ له القول.
ولقي ذات يوم الصورة أخت علي بن يوسف حاسرة قناعها على عادة قومها الملثمين في زي نسائهم فوبخها ودخلت على أخيها باكية لما نالها من تقريعه ففاوض الفقهاء في شأنه بما وصل إليه من شهرته وكانوا ملئوا منه حسدا وحفيظة لما كان ينتحل مذهب الأشعرية في تأوي المتشابه وينكر عليهم جمودهم على مذهب السلف في إقراره كما جاء ويرى أن الجمهور لقنوه تجسيما ويذهب إلى تكفيرهم بذلك أحد قولي الأشعرية في التكفير فمال الرأي فأغروا الأمير به فأحضره للمناظرة معهم فكان له الفتح والظهور عليهم وخرج من مجلسه ونذر بالشر منهم فلحق من يومه بأغمات وغير المناكير على عادته وأغرى به أهلها علي بن يوسف وطيروا إليه بخبره فخرج عنها هو وتلميذه الذين كانوا في صحابته ودعا إسماعيل بن أيكيك من أصحابه وهو من أنجاد قومه وخرج به إلى منجاة من جبال المصامدة لحق أولا بمسفيوه ثم بهنتاتة ولقيه من أشياخهم عمر بن يحيى بن محمد بن وانودين بن علي وهو أبو حفص ويعرف بيته ابن لهنتاتة ببني فاصكات وتقول نسابتهم إن فاصكات هو جد وانودين ويقال لهنتاتة بلسانهم هنني فلذلك كان يعرف عمر بهنتي وسيأتي الكلام في تحقيق نسبهم عند ذكر دولتهم ثم ارتحل المهدي عنهم إلى إيكيلين من بلاد هرغة فنزل على قومه وذلك سنة خمس عشرة وخمسمائة وبنى رابطة للعبادة اجتمعت إليه الطلبة والقبائل يعلمهم المرشدة في التوحيد باللسان البربري وشاع أمره في صحبته واستدرك فقيه العلمية بمجلس الأمير علي بن يوسف وهو مالك بن وهيب أغراه به وكان حزاء ينظر في النجوم وكان الكهان يتحدثون بأن ملكا كائن بالمغرب لأمة من البربر ويتغير فيه شكل السكة لقران بين الكوكبين العلويين من السيارة يقتضي ذلك في أحكامهم وكان الأمير يتوقعها فقال: احتفظوا بالدولة من الرجل فإنه صاحب القران.
والدرهم المربع في كلام سفساف بسجع سوقي يتناقلها الناس نصه وهو: أجعل على رجله كبلا لئلا يسمعك طبلا وأظنه صاحب الدرهم المربع فطلبه علي بن يوسف ففقده وسرح الخيالة في طلبه ففاتهم وداخل عامل السوس وهو أبو بكر ابن محمد اللمتوني بعض هرغة في قتله ونذر بهم إخوانهم فنقلوا الإمام إلى معقل أشياعهم وقتلوا من داخل في أمره ثم دعا المصامدة إلى بيعته على التوحيد وقتال المجسمين دونه سنة خمسة عشر وخمسمائة فتقدم إليها رجالاتهم من العشرة وغيرها.
وكان فيهم من هنتاتة أبو حفص عمر بن يحيى وأبو يحيى بن يكيبت ويونس بن وانودين وابن يغمور ومن تينملل أبوحفص عمر بن علي الصناكي ومحمد بن سليمان وعمرو بن تافراتكين وعبد الله بن ملويات وأهب قبيلة هرغة فدخلوا في أمره كلهم ثم دخل معهم كيدموية وكنفيسة ولما كملت بيعته لقبوه بالمهدي وكان لقبه قبلها الإمام وكان يسمى أصحابه الطلبة وأهل دعوته الموحدين ولما تم له خمسون من أصحابه سماهم ايت الخمسين وزحف إليهم عامل السوس أبو بكر بن محمد اللمتوني بمكانهم من هرغة فاستجاشوا بإخوانهم من هنتاتة وتينملل فاجتمعوا إليهم وأوقعوا بعسكر لمتونة فكانت مقدمة الفتح وكان الإمام يعدهم بذلك فاستبصروا في أمره وتسابق كافتهم إلى الدخول في دعوته وترددت عساكر لمتونة إليهم مرة بعد أخرى ففضوهم وانتقل لثلاث سنين من بيعته إلى جبل تينملل فأوطنه وبنى داره ومسجده بينهم حوالي منبع وادي نفيس.
وقاتل من تخلف عن بيعته من المصامدة حتى استقاموا فقاتل أولا هزرجة وأوقع بهم مرارا ودانوا بالطاعة ثم قاتل هسكورة ومعهم أبو دوقة اللمتوني فغلبهم وقفل فاتبعه بنو واسكيت فأوقع بهم الموحدون وأثخنوا فيهم قتلا وأسرا ثم غزا بلد غجرامة وكان قد افتتحه وترك فيه الشيخ أبا محمد عطية من أصحابه فغدروا به وقتلوه فغزاهم واستباحهم ورجع إلى تينملل وأقام بها إلى أن كان شأن البشير وميز الموحد من المنافق وكانوا يسمون لمتونة الحشم فاعتزم على غزوهم وجمع كافة أهل دعوته من المصامدة وزحف إليهم فلقوه بكيك وهزمهم الموحدون واتبعوهم الى أغمات فلقيهم هنالك زحوف لمتونة مع بكر بن علي بن يوسف وابراهيم بن تاعباشت فهزمهم الموحدون وقتل إبراهيم واتبعوهم إلى مراكش فنزلوا البحيرة في زهاء أربعين ألفا كلهم راجلين إلا أربعمائة فارس.
واحتفل علي بن يوسف الاحتشاد وبرز إليهم لأربعين من نزولهم خرج عليهم من باب إيلان فهزمهم وأثخن فيهم قتلا وسبيا وفقد البشير من أصحابه واستحر القتل في هيلانة وأبلى عبد المؤمن في ذلك اليوم أحسن البلاء وكانت وفاة المهدي لأربعة أشهر بعدها وكان يسمى أصحابه بالموحدين تعريضا بلمتونة في أخذهم بالعدول عن التأويل وميلهم إلى التجسيم وكان حصورا لا يأتي النساء وكان يلبس العباءة المرقعة وله قدم في التقشف والعبادة ولم تحفظ عنه فلتة في البدعة إلا ما كان من وفاقه الإمامية من الشيعة في القول بالإمام المعصوم والله تعالى أعلم.