أرشيف المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 18 ديسمبر 2018

أمراء لم يشيعهم أحد وسلاطين أرعب موتهم البلاد 

«يسمع الناس كثيرا عن ملك مات. لكن لا أحد يعرف الطقوس المصاحبة لما بين الوفاة والدفن. حتى كُتّاب التاريخ الرسمي، عملوا بقاعدة «مات الملك عاش الملك»، وانشغلوا عن السلطان المتوفى بالجديد، ولم تعر أغلب الكتب اهتماما لمراسيم الجنائز. السلطان الحسن الأول الذي حمل جثمانه على البغال والوفاة الغامضة لأبناء السلاطين.. كلها قصص تكتب معالم جنائز غير عادية تختلط فيها تفاصيل الموت بالإثارة».

عندما تهاوى الناس في الشوارع حزنا على محمد الخامس

كشف الأرشيف البريطاني مؤخرا عن ترسانة من أشرطة الفيديو التي تؤرخ لمراحل متفاوتة من تاريخ البلاد. وبعد أن هدأ شغف المواقع الإخبارية التي سارعت إلى إعادة نشر وتعميم بعضها، كانت أشرطة أخرى تتوارى في لائحة تضم أزيد من 80 ألف شريط جديد.
الأبيض والأسود، لونان سيطرا على حياة تلك الفترة، لذلك بدت الأشرطة سليمة حتى بعد مضي كل تلك السنوات. بدت فيها الجلابيب البيضاء تتماهى مع قتامة الأحوال السياسية لتلك الفترة.
زفاف الملك محمد الخامس، وجنازته، وجنازة الباشا الكلاوي التي لا يملك المشاهد إلا أن يصاب بالدهشة أمام حجم الجحافل التي حجت إلى دار الرجل لتقديم العزاء. عسكريون أجانب ورجال سياسة فرنسيين وإنجليز، كانوا في وداع الباشا الكلاوي إلى مثواه الأخير. وكان منظر ابنه واقفا لتلقي التعازي، يصافح سلسلة بشرية مشهدا يتكرر أكثر من مرة في ذلك الشريط القصير. بين الفينة والأخرى تبدو باقات من الورود مصحوبة ببطائق تعزية ينقلها الخدم إلى ابن الكلاوي حتى يطلع عليها.. في حين أنه محاط بعشرات الرجال وعلماء الدين الذين كانوا يرون في تقديم الورود في الجنائز أمرا غاية في الغرابة.
وسط كل تلك الأشرطة، التي تؤرخ لأحداث متباينة ومتباعدة، يبدو شريط جنازة الملك الراحل محمد الخامس، جديرا بالتأمل.
ملك شاب، هو الحسن الثاني إلى جانبه أخوه الأمير مولاي عبد الله وخلفهما رجال الدولة. الجميع كان تحت تأثير الصدمة للموت المفاجئ للملك محمد الخامس، والذي كان في عقده الخامس وقتها، في قمة عطائه وتحركاته لتأسيس دعامات مغرب الاستقلال.
أجواء الجنازة كانت حزينة، وتبدو في الصور الشاحبة أجساد النساء الرباطيات تتهاوى كأوراق الخريف على جنبات الطريق الذي كانت تسير فيه الجنازة من القصر الملكي إلى مثوى محمد الخامس الأخير.
رجال الأمن المغاربة، «المخازنية» كانوا يساعدون الناس في نقل المغمى عليهم، والذين لم يستطيعوا تمالك أنفسهم وإبقاء رباطة جأشهم عندما لاح لهم نعش الملك الراحل.
أجواء الجنازة على ما بدا منها في الفيديو القصير، تحيل على موضوع مثير هو جنائز الملوك، وبالرجوع إلى القديم منها، تبدو معالم طقوس غاية في الغرابة، صاحبت جنائز الأسماء الكبيرة في الدولة، وقام لها الناس، ليتابعوا المراسيم.

المولى الحسن الأول الذي أخفي جثمانه وحملته  البغال لـ 6 أيام قبل دخول القصر

لعل أكثر قصص الموت إثارة، قصة موت السلطان المولى الحسن الأول. الرجل الذي حكم المغرب بكثير من الصرامة ربما لم تتأتَّ لأسلافه. كان همه أن يخضع القبائل التي كانت تثور ضده في كل مكان.. ولم يكن من السهل على الرجل أن يحكم وطنا عامرا بالقلاقل.
ولكي نعود إلى قصة وفاة السلطان المولى الحسن الأول، كان لا بد أن نتطرق هنا لعلاقة القصر بالزوايا، لأن هذه العلاقة هي التي أخرجت المولى الحسن من قصره ليتبع الزوايا المتمردة لإخضاعها، وإلا لمات في فراشه، بعكس الطريقة التي كُتب له أن يموت بها..
البداية كانت صراعات دامية بين الزوايا. متصارعة على النفوذ كما وقع بين الدلائيين، نسبة إلى الزاوية الدلائية بمنطقة خنيفرة، مع السملاليين. إذ دخلت القبيلتان في حرب سنة 1612، وتذابح فيها الفقراء، فيما كان شيوخ الزوايا يحثونهم على «الجهاد»، وهو ما نتج عنه سيطرة مطلقة للزاوية الدلائية على الأطلس المتوسط، ولما استقوت وسيطرت على الطرق التجارية وامتد نفوذها إلى قبائل أخرى، قامت بإعلان الحرب ضد الدولة السعدية.
وبقيت الزاوية على حالها إلى أن دخلت في حرب جديدة ضد العلويين، ودخلت الزاوية في حرب طويلة الأمد في أكثر من مدينة، إلى أن استطاع المولى الحسن الأول إخضاعهم في فاس، وانتهت المعركة بهروب زعيم الزاوية الدلائية، بأمواله وأولاده إلى الجزائر ليحتمي بالعثمانيين.
ثم عادت نفس الزاوية لتتقوى من جديد، لتعود في فترة رئاسة الشيخ أحمد بن عبد الله الدلائي، وتعلن العصيان في منطقة تادلة، ودخلت في حرب مع قوات السلطان وهزمت جيوشه في أكثر من واقعة. ولم تحسم المعركة إلا في عهد مولاي إسماعيل، الذي توجه على رأس جيش قوي مجهز بأحدث البنادق وأقوى الرجال، ليتواجه مع الدلائيين ويكسر شوكتهم نهائيا.
في سهل تادلة هذه المرة، وغير بعيد عن أطلال الزاوية الدلائية، قامت الزاوية الحنصالية بتمرد مسلح سنة 1733، انتهى بانتصار السلطان العلوي المولى عبد الله، وإعدام شيخ الزاوية الحنصالية.
الزاوية الشرقاوية أيضا عرفت مواجهات حامية مع المخزن في فترات مختلفة، لكن نهاية ثوراتهم كانت في عهد المولى عبد الله، الذي أخضعهم بعد مواجهات ساخنة، تهدمت إثرها زاويتهم وحكم على شيوخها بالموت تارة والنفي تارة أخرى، بعد أن كان نفوذهم يصل إلى حد التحكم في التجارة والأسواق، وبسط النفوذ على قبائل في مختلف الأرجاء المحيطة بنفوذ الزاوية الترابي.
الزاوية الدرقاوية أيضا لعبت دورا أساسيا في الحروب التي شنت ضد السلاطين، إذ شاركت في الحرب التي أنهت حكم السلطان مولاي سليمان عام 1818، باعتقاله وقتل ابنه إبراهيم. حيث كان الدرقاوي علي أمهاوش، يترأس الجيش الذي خرج لمحاربة السلطان، الذي كان يسعى إلى ضبط تمرد القبائل وتوسعها المستمر واستقوائها الاقتصادي.
هذه النبذة عن صراع الزوايا جاءت ليبدو الدور الذي لعبته في تأجيج القوى المعادية للقصر، وهذا بالضبط ما حرّك السلطان المولى الحسن الأول لينزل إليها، رغم أنه كان في سن تدعوه إلى تسيير أمور الدولة من قصره، كما كان ينصحه المحيطون به، لكنه كان يعتقد أنه قوي كفاية للنزول إلى الأراضي لإخضاع القبائل بحد السيف.
الحسن الأول كان خارج القصر عندما وافته المنية، ولحسن حظه فقد كان مرفوقا بحاجبه المخلص، باحماد، الرجل الذي حرص على تنفيذ وصيته بتنصيب ابنه مكانه في الحكم. كان لانتشار خبر وفاة السلطان المولى الحسن أن يعصف بالدولة أو يقلب انتقال الحكم على أقل تقدير.. لذلك عمد با حماد إلى إخفاء الخبر تماما عن المرافقين للملك.. ولم تكن المهمة سهلة على كل حال، خصوصا أن أخبارا راجت عن الحالة الصحية للسلطان في تلك الرحلة الأخيرة التي شكلت نهاية حياته.
أخفى باحماد موت السلطان كما ذكرت ذلك كتب تاريخية كثيرة وعديدة، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بشدة هنا هو مصير جثمان السلطان بعد جمع الخيام والتنقل من مكان إلى مكان على مدى أيام؟
حسب الروايات التاريخية التي جزم المؤرخون بصحتها، فقد عمد باحماد إلى إخفاء جثمان الحسن الأول وحملته البغال على مدى ستة أيام صيفية حارّة، كانت خلالها الحيوانات تترنح من رائحة الجثمان الذي بدأ يتأثر بعامل الطقس، إلى أن وصل الموكب إلى القصر، وسارع باحماد إلى إدخال الجثمان عبر اختراق جدار القصر، لأن عادة قديمة عند السلاطين كانت تنص على عدم إدخال جثامين السلاطين الهالكين خارج القصر من البوابة، وإنما عبر إحداث فتحة في الجدار وإدخال الجثمان إلى داخل الدار السلطانية.
هكذا كان.. ونجح با حماد في إيصال جثمان المولى الحسن إلى داخل القصر، بل ونجح في إخفاء خبر الوفاة إلى أن أعلن رسميا عن تولي المولى عبد العزيز للحكم.
يخصص يوم الأربعاء للنظر في أحوال الجيش وحاجة الجنود واستعراضهم، ويشرف السلطان بنفسه على تفقد أحوال الجيش. وكان هذا الطقس من الأهمية بما كان. إذ أن وفاة السلطان المولى الحسن كادت لتكتشف في اليوم الذي كان يخرج فيه السلطان على الجيش، ورغم أن باحماد حرص على إخفاء خبر وفاة السلطان حتى يتسنى له تنصيب المولى عبد العزيز مكانه، إلا أن طقس الأربعاء حتم عليه إخراج السلطان الجديد ليتفقد الجيش، وبالتالي يفتح الباب أمام التأويلات والتكهنات بشأن صحة السلطان وموته..
وحسب كتاب «العز والصولة في معالم نظم الدولة» لصاحبه المؤرخ السلطاني عبد الرحمن بن زيدان، فإن يوم الأربعاء الذي جرت العادة فيه أن يستعرض السلطان صفوف الجيش ويتذاكر مع وزيره أمور الحربية والعتاد، كان اليوم الذي سيظهر فيه السلطان الجديد مكان والده، ويصبح موت السلطان الحسن الأول حقيقة رسمية.

 

ابن عباد.. جثمان  مكبل بالأغلال لم يتبعه أحد

 هذه أيضا قصة أمير سجين، زرعت قصته الهلع والرعب في صدور أجدادنا سنوات طويلة حتى بعد وفاته. موته كان أكثر وقعا من أن يتم إخفاؤه عن الناس.. كان الجميع يعرف أنه مسجون لأن السلطان غاضب عليه، ويرى فيه تهديدا صريحا ومباشرا لحكمه.. إنه المعتمد بن عباد.
دخل المعتمد بن عباد السجن على عهد يوسف بن تاشفين. الأخير الذي عاد من معركة الزلاقة منتصرا سنة 479 هجرية، وتحقق له من النصر الشيء الكثير، وبلغ مداه بتحكمه في المماليك وسجن أمرائها.. قبلها كان المعتمد بن عباد أميرا على إشبيلية، ليسقط تحت رحمة يوسف بن تاشفين بعد إحكام قبضته على المماليك.
دخل المعتمد بن عباد وإخوته من أمراء المماليك إلى طنجة ومنها إلى مكناس، ليبقوا في أغمات. وفي الوقت الذي استقر فيه بعض إخوته في منازل بأغمات، كان مصير المعتمد بن عباد السجن في المدينة ذاتها.
أربع سنوات قضاها المعتمد بن عباد سجينا، خبر خلالها محنا كثيرة نظمها في أبيات من الشعر صارت معروفة فيما بعد. في الفترة التي قضاها سجينا توفيت زوجته داخل السجن وهو ما أثر على نفسيته التي كانت مهزوزة أصلا، قبل أن يلحق بها في نهاية السنوات الأربع.
لكن أوج معاناة المعتمد بن عباد كانت عندما اندلعت الثورة بالأندلس، والتي كانت تنادي بإسقاط حكم المرابطين، وهو ما جعل يوسف بن تاشفين يشفي غليله في الأمير السجين، بأن أمر الحراس بوضع الأغلال في رجلي المعتمد بن عباد لتزيد معاناته. لينتهي ميتا في زنزانته. ولا زال موضوع اعتقال بن عباد ومحنته كأمير على مملكة من مماليك الأندلس وانتقام يوسف بن تاشفين منه، محط كثير من الدراسات والأبحاث التاريخية إلى اليوم.
لكن اعتقال الأمراء على مر التاريخ كان رهينا بفترة تاريخية محددة، ولم تكن تحرك دوافعه سوى تقلبات الحكم والأشخاص المتعاقبين على القيادة، والذين كانوا بطبيعة الحال يبعدون الأمراء السابقين ويعينون آخرين موالين لهم. لكن المرينيين اشتهروا أكثر، ومعهم المرابطين بسجن الأمراء. وبما أن الأمراء، بجلال قدرهم في تلك الفترة، كانوا يدخلون السجون تباعا، وكانت تفرض عليهم رقابة شديدة، فإن جنائزهم بالضرورة، لا يتبعها أحد في الغالب.

 

أمير يموت في ظروف غامضة

هنا شهادة عن وفاة أحد الأمراء، وهو من أبناء السلطان المولى الحسن الأول، كان مشروع سلطان لولا أن أخاه عبد العزيز وصل إلى الحكم، وعندما عرفت البلاد تلك التغيرات التي عصفت بالسلطان الصغير، ظن أن الوقت ملائم ليقوم بخطوة إلى الأمام للظفر بحكم والده، خصوصا وأنه أكبر الأبناء.
إلى هنا بدا كل شيء مقنعا. خصوصا أنه يقيم في مدينة الرباط، غير بعيد عن فاس، التي كانت عاصمة للملك في ذلك الوقت. وأخوه الآخر، عبد الحفيظ، كان بعيدا جدا.. في مراكش حيث توجد قبائل تحت إمرة الباشا المثير للجدل، الكلاوي. بينما الأمير محمد كان حوله عدد من أصدقائه ويستعين بشرعية عالم درس بجامعة القرويين في فاس، يشيع بين الناس أن الأمير محمد أحق بالحكم من أخيه الذي طرده العلماء من الحكم لأنه لا يقاوم النصارى.
لكن قوة عبد الحفيظ، وقوة الذين جاؤوا به إلى الحكم وأمنوا له الطريق إلى فاس، جعلت وصول الأمير محمد إلى الحكم مهمة صعبة إن لم نقل مستحيلة. وهنا إشارة، أو شهادة، توثق للحادث أياما بعد نجاح عبد الحفيظ في الظفر بحكم أبيه، وتفرغه لعقاب الأمير محمد الذي بدا منهزما. والعهدة هنا على الراوي:
«في صباح اليوم الموالي، ومع فتح أبواب المدينة، خرجنا لاستقبال الموكب الحزين. لأزيد من نصف ساعة و«الحاج» يسدي لنا النصح كي نرجع إلى المدينة خلف الأسوار لأنها أكثر أمانا».
يقصد الراوي هنا بموكب الأمير الحزين، محمد بن الحسن الأول. أما سبب الحزن فهو المصير الذي سيلقاه أياما قليلة بعد استقباله في موكب حاشد، حرص منظموه على إهانة كرامة الأمير وتمريغها في الوحل لأنه تجرأ على المطالبة بالحكم في وقت كانت القوة القبلية إلى جانب أخيه عبد الحفيظ.
نواصل: «انتشر الخبر بسرعة، وحاول بعض رجال القبائل الأشرار أن يحولوا المكان إلى خطر على النصارى. رجعنا على إثر ذلك إلى مكان قرب الباب، في المكان الذي جلس فيه مولاي عبد الحفيظ في انتظار قدوم أخيه الأمير. بعد لحظات دخل الموكب إلى فناء القصر.
كان أزيد من 20 حارسا بملابسهم القذرة والملطخة، يحرسون الأمير المنحوس ولا يعبؤون أبدا كونه أميرا من العائلة الحاكمة.  كانوا يلتفتون يمنة ويسرة متحلقين حول الأمير العاجز مولاي محمد.
كان الأمير يترنح في أغلاله، ويغمض عينيه كلما مضى في اتجاه أشعة الشمس، إلى أن مر قرب المولى عبد الحفيظ. لم يتبادل الأخوان أي كلمة. مضى الأمير في خطواته متجاوزا الباب الخشبي الكبير للقصر الملكي، والذي كان أسود اللون.
سمع صوت الباب برهبة كبيرة أثناء إغلاقه من طرف الحراس، وكأنه ناقوس الموت. خيم صمت ثقيل ومتعب على فناء القصر. حتى المرافق بدا في عينيه حزن عميق. وكأن الأمل غادر كل شيء  بمجرد إغلاق الباب الخشبي الثقيل. حملقت طويلا في ملامح مولاي عبد الحفيظ بمجرد ما جلس في صمت، ولاحظت أن ملامحه كانت تشبه إلى حد كبير تفاصيل وجهه في اللحظة التي زج فيها بالكبش في قفص النمور ذلك اليوم.
الأمير المسكين محمد، هكذا اعتقدت، ولم تكن اعتقاداتي خاطئة. أياما قليلة بعد ذلك اليوم، مات الأمير مولاي محمد في ظروف غامضة.
عم سرور كبير في مدينة فاس. وفي بلد لم ينعم بعد بنعمة الجرائد، فقد سرى الخبر بسرعة البرق أمام محلات البازار المنتشرة في فاس، واجتمع أمامها الناس لمناقشة الخبر الأبرز ذلك اليوم».
هذا مصير أمير، ارتبط موته بإرعاب سكان مدينة فاس، التي كانت يومها عاصمة للعلم والسياسة.

صراع الزوايا..حالة الطوارئ التي منعت طقوس جنائز الملوك

المغرب في عهد الوطاسيين كان محطا لأطماع البرتغاليين والإسبان.. وأمام هذه الأطماع، لم تكن هناك دولة قوية ومستقرة تدافع عن الثغور ضد الامتداد الأوربي. الوطاسيون وصلوا  إلى الحكم بعد أن نجحوا في إزاحة المرينيين، لكنهم لم ينجحوا في إخضاع جميع المناطق التي كانت تعرف ثورات قبائلية ضدهم وضد دولتهم الفتية.
لم يجد الوطاسيون سندا لدولتهم المهزوزة إلا في التنازل للأوربيين عن المزيد من الموانئ والشواطئ، في مقابل مساعدتهم على الاحتفاظ بالسلطة في مناطق محدودة، ودامت الاضطرابات والقتال في جميع أنحاء المغرب أكثر من 80 سنة، كانت خلالها الزوايا غاضبة على الوطاسيين، وبما أن الزوايا غير راضية، فإن «العامة» غير راضين أيضا، وهو ما جعل الأوضاع تبقى متضاربة طيلة ذلك الوقت.
السعديون أيضا دارت بينهم أو ضدهم، لا يهم، معارك طاحنة استمرت عقودا طويلة.
ولا يذكر السعديون إلا وتذكر معهم معركة وادي المخازن، التي نكلوا فيها بالبرتغاليين وهزموهم. لكن قبل المعركة كانت هناك سنوات عرفت صراعا بينهم وبين الوطاسيين، إلى أن نجحوا في إسقاط دولتهم وإقامة الدولة السعدية.
لم يتأت للسعديين الحكم إلا بتحالفهم مع الزوايا الدينية، وهو التحالف الذي دام زهاء أربعين عاما إلى أن قضوا على آخر معاقل الوطاسيين.
في معركة وادي المخازن، حارب السعديون بضراوة، وسقط خلال الحرب ثلاثة ملوك: قُتل الملك البرتغالي «دوم سيباستيان» والمغربي المتوكل، وهو من الوطاسيين، وكان متحالفا مع البرتغاليين، والسلطان آنذاك عبد المالك.
يقول لاورنس هاريس، وهو صحفي إنجليزي زار المغرب عدة مرات بعد قرون من تلك الواقعة، وكان يطلع على ما ذكر في الكتب الأجنبية بخصوص تلك المعركة التاريخية.
قال هاريس إن الكتب الأجنبية أشارت إلى أن ذلك اليوم كان مشهودا، وأن البرتغاليين هزموا شر هزيمة هم وحلفاؤهم. الحرب كانت حامية الوطيس، وكان الفضاء الذي التقت فيه تلك الجموع المتضاربة شاسعا. ويضيف هاريس إنه قرأ، ومن المحال أن يكون الأمر مبالغا فيه، أن ساحة المعركة كانت عامرة عن آخرها بالجثث، التي بقيت متعفنة لأيام طويلة.
إذا كانت المعركة صنعت مجد السعديين، فإن أبناء السلطان المنصور السعدي لم يحافظوا على مجد الدولة، ودخلوا في صراعات طاحنة.
زيدان، أبو فارس، ومحمد الشيخ المأمون، دخلوا في حرب على السلطة استمرت لـ60 سنة كاملة، جر خلالها الناس إلى تلك الحرب الطويلة. سكان البوادي كما سكان المدن. من فاس إلى تادلة مرورا بمراكش، وكان من نتائجها سقوط آلاف الضحايا وتدمير كل ما تم بناؤه خلال ربع قرن من الزمان، في عدة أيام فقط.
التفكك الذي عرفته دولة السعديين جعل التوغل الأجنبي يزداد حدة ويسترجع سطوته، بعد أن نكل به السعديون في بداية دولتهم.
هاتان الدولتان، عرفتا حروبا طاحنة، جعلت طقوس الجنائز تغيب لسنوات طويلة، لأن السلاطين الهالكين كانوا يموتون في الحروب، أو في السجون.

في جنائز  الأمراء يحرص العبيد على تركيب صفائح جديدة للخيول

 بالرجوع إلى قصة وفاة الأمير محمد، في الظروف الغامضة كما وصفتها الوثيقة التاريخية أعلاه، فإن هناك إشارة إلى طقس جنائزي يحيط بموت الأمراء في القصور السلطانية في تلك الفترة الزمنية الغابرة.
إذ يقول الراوي في أحد المقاطع ناقلا حيرة الشارع الفاسي على إثر وفاة الأمير المفاجئة، إن الناس كانوا حائرين بخصوص مصير الأخير، مستغربين كيف أن العبيد لم يقوموا باستبدال «الصفائح» الحديدية لحوافر البغال والخيول الملكية.. وهذا طقس سلطاني معروف في الطقوس المحيطة بجنائز القصر الملكي. يقول: «.. آخرون يقولون إن العبيد يعلمون ماذا وقع بالضبط. ويتساءلون لماذا لم تأت الخيول والبغال الملكية كي تستبدل لها الصفائح عند الحداد.. لا بد وأن العبيد يعلمون كل شيء عما وقع».
بما أن العبيد لم يأتوا يومها، على غير عادتهم في جنائز القصر، بالبغال حتى تستبدل الصفائح الحديدية لحوافرها، فلا بد وأن أمرا مريبا يحيط بوفاة الأمير.

بروتوكول صارم في جنائز السلاطين

فريق للتغسيل وآخر لتوزيع ملابس السلطان الميت
في كتاب العز والصولة، لصاحبه الذي كان مؤرخا للدولة العلوية، ويتعلق الأمر هنا بعبد الرحمن بن زيدان، يتحدث بإطناب عن الطقوس التي كانت تمارس داخل أسوار القصور السلطانية، في أماكن لا يصلها لا الوزراء ولا النافذون، وإنما يبقى سرها رهين أهل الدار والعبيد والحريم السلطاني.
وفاة سلطان داخل القصر، كانت حدثا يقام له ولا يقعد إلا بتنصيب السلطان الجديد. وهكذا، كان لزاما على الذين يقومون على خدمة السلطان، أن يقوموا بمجرد وفاته، بإخلاء القاعة التي توفي فيها السلطان، ومباشرة مهام تغسيله. لكن قبل ذلك تنزع عنه ثيابه التي توفي فيها، وتمنح لخدم خاصين بتلك العملية، حيث يشرفون على توزيعها والتصدق ببعضها، بينما يقوم المشرفون على جثمان السلطان بإلباسه لباسا جديدا.
وتتم الصلاة على الميت بزعامة السلطان الجديد، الذي لا يتم تنصيبه إلا بعد دفن السلطان السابق، وقيام جميع من في القصر بإلقاء نظرة الوداع على الميت، ثم ينقل إلى المسجد السلطاني لتصلى عليه صلاة الجنازة، ومن ثم يباشر عملية دفنه إلى جانب أجداده، ويعين من يقومون بتلاوة القرآن لأيام، حيث يشترط أن يتلى القرآن كاملا كل يوم، لتعاد نفس العملية لمدة لا تقل عن خمسة أيام كاملة، وبعدها يعين من يتلو القرآن على الضريح بانتظام حتى بعد مضي فترة الحداد الرسمية.

ما مصير أموال السلطان الميت

مفاتيح توجد بحوزة أمين لا يفتح الخزائن إلا بأمر السلطان
بعيدا عن نظام الإرث السلطاني، فإن السلاطين الذين تعاقبوا على حكم المغرب، كانت لديهم أنظمة صارمة، لها أناسها المشرفون عليها، لضمان الحفاظ على ثرواتهم من الضياع أو النهب على يد العبيد أو خدام الأعتاب الشريفة.
وفي كتاب العز والصولة، هناك مقاطع تتحدث عن نظام تخزين صارم لجميع مدخرات السلطان، حيث خصصت بالقصر الملكي عدة خزائن لحفظ الأحجار الكريمة والمجوهرات والسبائك الذهبية النفيسة والهدايا التي كان يحصل عليها السلاطين. وكذا الأواني النفيسة والكؤوس والأباريق المذهبة والأواني الرفيعة النادرة.
مفاتيح تلك الخزائن كانت في عهد المولى اسماعيل بيد قائد يدعى عنبر، وبعده انتقلت إلى مرجان الصغير وباجوهر البرناوي.
أحد الأجانب، وكان يدعى «ستيوارت» سجلت شهادته على قصر المولى اسماعيل، حيث قال:
«بعد ذلك أوقفونا في محل آخر نظيف جدا، دائر بالسواري أيضا وكان بوسطه صهريج من رخام يجري فيه الماء على الدوام. ورأينا بعد ذلك خزينا للسلاح ويقال إن مال السلطان مودع هناك. وهناك بيوت عظيمة مملوءه بالبنادق، وفي وسطها رمح كان أخذ من أحد ملوك الهند، ورأينا هناك أنواعا من أسلحة أخرى من نحاس.. ويظهر أن ذلك كله لم يكن من صنع المسلمين وإنما غنم من النصارى حينما كانوا يحاربونهم، وخصوصا الإسبان والبرتغال، ثم رأينا بيوتا مغلقة لا يدخلها أحد لما فيها من أمتعة السلطان وحليه، وبالأخص سبائك الذهب والفضة، ويسمى حارس تلك الكنوز ابا عنبر وهو من الطواشين السود ووجدنا في آخر تلك البيوت عددا كثيرا من السيوف الحسنة جلها أخذ من النصارى ويظهر أن السلطان عنده من السلاح ما لا يملكه غيره من الملوك.
مررنا بمحل تخزن فيه الكتب الدينية به قبة عجيبة الصنع سقفها مصبوغ باللون الأزرق فيه نقط ذهبية تمثل النجوم وفي وسطها دائرة من الذهب تمثل الشمس، وشاهدنا قبابا أخرى كثيرة كان يودع فيها السلطان ما كانت تهديه ملوك النصارى من التحف وهناك أيضا كان يودع سلاحه وما عنده من المصنوعات المتقنة، فوجدنا في إحدى القباب سبع أو ثمان عربات، وفي أخرى حسكات كان أهداها إليه الملك جورج الانجليزي».
هنا انتهت شهادة هذا الرجل الذي حظي بفرصة التجول في القصر ورؤية ما يضمه من خزائن. وبقيت تلك عادة الملوك، يودعون مفاتيح تلك الخزائن لدى المكلفين ممن ذكرنا أسماءهم.
أما إذا أراد السلطان استخراج شيء ما من تلك الخزائن «دخل الأمين مع بعض الطواشين، فإذا رام فتح الباب وأخرج المفاتيح من جرابه وغطى القفل بكمه لئلا يطلع من معه على كيفية فتح القفل، لأن تلك المفاتيح لم تكن في المتناول المبتذل، وفي عهد مولاي عبد العزيز سلمت بعض المفاتيح إلى قائد الطواشين وبقي بعضها بيد أبناء الأمين، والبعض أعطي للعريفة. وفي عهد مولاي عبد الحفيظ سلمت مفاتيح الخزائن التي بخارج القصر للحاجب والتي بداخله للعريفات، وفي عهد المولى يوسف جرى العمل على ذلك، حتى وصل إلى يد الملك محمد الخامس بن يوسف.

 

يونس جنوحي 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Ait bouzidبوابة ازيلال- افورار: واويزغت

Ait bouzidبوابة ازيلال- افورار: واويزغت : Farid Aabid دراسة حول واويزغت من إنجاز: هشام بويزكارن. ماستر التاريخ والتراث الجهوي مقدمة: تهدف...